لحمدُ لله ربِّ العالمين، ولا عُدوانَ إلا على الظالمين، والصلاة والسَّلام على المبعوث رحمةً للعالمين، نبيِّ الرحمة والملحمة وعلى آله وأصحابِه، ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين.
وبعد:
فهذه فتوى الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية - رضي الله عنه - حول ما يتعلَّق بكنائس القاهرة ومصر، وحول الموقِف مِن أهل الذِّمة، وفيها ذكر متَى ينصُر اللهُ وليَّ أمْر المسلمين ومتى يخذله، وغير ذلك مِن المسائل العظيمة التي لا تكاد تجدُها مجتمعة في غير هذه الفتوى المباركة، وما أشْبهَ زمانَه - رحمه الله تعالى - بزماننا هذه الأيام! ممَّا يبين أهميَّة قراءة هذه الفتوى المباركة بعناية، مع أنَّ فيها مسائلَ قليلةً لا تتناسب مع زمننا، لكن أغلبها ممَّا نحتاجه الحاجةَ الماسَّة، وليس المراد هنا: هل نُطبِّق ما فيها الآن أو لا، وإنَّما المراد معرفة الحُكم الشرعي وأقوال أهل العِلم، وتهيئة الأمةَّ لذلك، وتقوية الموقِف أمام حُجج الأقباط وغيرهم، ثم يفعل ما فيها في الوقت المناسب، لكن فيها ردٌّ على أقباط مصر اليومَ فيما ينادون به ويريدونه ويفعلونه، وفيها بيانُ الموقف الصحيح مِنهم، وفيها ما يبيِّن عِزَّة العالِم، وما يَنبغي أن يكونَ عليه المسلمون اليوم في تعاملهم مع أهلِ الكتاب، فما أحوجَنا إليها هذه الأيَّام، ولا حولَ ولا قوَّة إلا بالله العليِّ العظيم.
وهذه الفتوى العظيمة منتزعَة من مجموع فتاوى الشيخ (28/632 - 646)، وقد نقلتُها بنصِّها، ولم أضفْ عليها إلاَّ الصلاة على النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في موطنين بيْن معكوفتين، نفعَنا الله بها، وأصلح أحوالَ المسلمين في كلِّ مكان، ونصرَهم على عدوِّه وعدوِّهم، وعلَّمهم ما ينفعهم ونفَعهم بما علَّمهم وزادَهم علمًا وتوفيقًا، إنَّه أكرمُ الأكرمين، والحمد لله ربِّ العالمين، وإلى الفتوى.
الفتوى:
السؤال الوارد على الشيخ:
"ما تقول السادةُ العلماء أئمَّة الدِّين في الكنائس التي بالقاهرة وغيرها التي أُغلقت بأمْر ولاة الأمور إذا ادَّعى أهلُ الذِّمَّة أنها أُغلقت ظلمًا، وأنَّهم يستحقُّون فتحَها، وطلبوا ذلك مِن وليِّ الأمر - أيَّده الله تعالى ونَصَره - فهل تُقبل دعواهم؟ وهل تجِب إجابتهم أم لا؟ وإذا قالوا: إنَّ هذه الكنائس كانتْ قديمةً مِن زمن أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه - وغيره من خلفاء المسلمين، وأنهم يَطلبون أنَّهم يُقَرُّون على ما كانوا عليه في زمَن عمر وغيره، وأنَّ إغلاقَها مخالف لحُكم الخُلفاء الراشدين، فهل هذا القول مقبولٌ منهم أو مردود؟ وإذا ذهَب أهلُ الذمَّة إلى مَن يَقْدَم مِن بلاد الحرب مِن رسولٍ أو غيره، فسألوه أن يسألَ وليَّ الأمر في فتحها، أو كاتبوا ملوك الحرْب ليطلبوا ذلك مِن وليِّ أمر المسلمين، فهل لأهل الذمَّة ذلك؟ وهل ينتقض عهدُهم بذلك أم لا؟ وإذا قال قائل: إنَّهم إنْ لم يُجابوا إلى ذلك حصَل للمسلمين ضررٌ إمَّا بالعدوان على مَن عندهم مِن الأسرى والمساجد، وإما بقطع متاجرِهم عن ديار الإسلام، وإما بترْك مُعاونتهم لوليِّ أمر المسلمين على ما يعتمده مِن مصالِح المسلمين ونحو ذلك، فهل هذا القول صوابٌ أو خطأ؟ بيِّنوا ذلك مبسوطًا مشروحًا؟
وإذا كان في فتْحها تغيُّر قلوب المسلمين في مشارقِ الأرض ومغاربها، وحصول الفِتنة والفُرقة بينهم، وتغيُّر قلوب أهل الصلاح والدِّين وعموم الجُند والمسلمين على ولاة الأمور؛ لأجْلِ إظهار شعائر الكُفر، وظهور عزِّهم وفرحهم وسرورهم بما يُظهرونه وقتَ فتْح الكنائس مِن الشموع والجموع والأفراح وغير ذلك، وهذا فيه تغيُّرُ قلوب المسلمين مِن الصالحين وغيرهم، حتى إنَّهم يدْعون الله تعالى على مَن تسبَّب في ذلك وأعان عليه، فهل لأحد أن يُشير على وليِّ الأمر بذلك؟ ومَن أشار عليه بذلك هل يكون ناصحًا لوليِّ أمْر المسلمين أم غاشًّا؟ وأي الطرق هو الأفضلُ لوليِّ الأمْر - أيَّده الله تعالى - إذا سَلَكه نصرَه الله تعالى على أعدائه؟
بيِّنوا لنا ذلك وابْسُطوه بسطًا شافيًا مثابين مأجورين - إنْ شاء الله تعالى - وحسبُنا الله ونعم الوكيل، وصلَّى الله على سيِّدنا محمَّد خاتم النبيِّين، وعلى آله وصحْبه أجمعين، ورضِي الله عن الصحابة المكرمين وعنِ التابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين".
الجواب:
"الحمدُ لله ربِّ العالمين: أمَّا دعواهم أنَّ المسلمين ظَلموهم في إغلاقها، فهذا كذبٌ مخالِف لإجماع المسلمين، فإنَّ علماء المسلمين مِن أهل المذاهب الأربعة؛ مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم مِن الأئمَّة؛ كسفيان الثوري والأوزاعي والليث بن سعد وغيرهم، ومَن قبلهم من الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم - أجمعين متَّفقون على أنَّ الإمام لو هدَم كلَّ كنيسة بأرض العنوة كأرض مصر والسَّواد بالعراق وبر الشام ونحو ذلك مجتهدًا في ذلك ومتبعًا في ذلك لمَن يرى ذلك؛ لم يكن ذلك ظلمًا منه، بل تجب طاعتُه في ذلك ومساعدته في ذلك ممَّن يرى ذلك، وإن امتَنعوا عن حُكم المسلمين لهم كانوا ناقِضين العهدَ وحلَّت بذلك دماؤُهم وأموالُهم.
وأمَّا قولهم: إنَّ هذه الكنائس قائمةٌ من عهد أمير المؤمنين عمرَ بن الخطَّاب - رضي الله عنه - وإنَّ الخلفاء الراشدين أقرُّوهم عليها فهذا أيضًا من الكذِب؛ فإنَّ مِن العلم المتواتر أنَّ القاهرة بُنِيت بعدَ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بأكثرَ مِن ثلاثمائة سنة، بُنيت بعدَ بغداد وبعدَ البصرة والكوفة وواسط، وقد اتَّفق المسلمون على أنَّ ما بناه المسلمون مِن المدائن لم يكن لأهل الذمَّة أن يُحدِثوا فيها كنيسة، مِثل ما فتحه المسلمون صلحًا، وأبقوا لهم كنائسهم القديمة بعدَ أن شرط عليهم فيها عمرُ بن الخطاب - رضي الله عنه - ألا يُحدِثوا كنيسة في أرض الصُّلح، فكيف في مدائن المسلمين؟! بل إذا كان لهم كنيسةٌ بأرض العنوة؛ كالعراق ومصر ونحو ذلك، فبنَى المسلمون مدينة عليها فإنَّ لهم أخْذَ تلك الكنيسة؛ لئلاَّ تُتركَ في مدائنِ المسلمين كنيسةٌ بغير عهد، فإنَّ في سنن أبي داود بإسناد جيِّد عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - عن النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه قال: ((لا تصلح قِبلتان بأرض، ولا جزيةَ على مسلِم))، والمدينة التي يسكُنها المسلمون، والقرية التي يَسكُنها المسلمون وفيها مساجدُ المسلمين لا يجوز أن يَظهر فيها شيءٌ مِن شعائر الكُفر، لا كنائس ولا غيرها، إلاَّ أن يكون لهم عهدٌ فيُوفى لهم بعهدهم، فلو كان بأرْض القاهرة ونحوها كنيسةٌ قبل بنائها لكان للمسلمين أخْذُها؛ لأنَّ الأرض عنوة؛ فكيف وهذه الكنائس مُحدَثة أحدثها النصارى؟!
فإنَّ القاهرة بقِي ولاة أمورها نحوَ مائتي سَنة على غيرِ شريعة الإسلام، وكانوا يُظهرون أنهم رافضة، وهم في الباطن إسماعيليَّة ونُصيرية وقرامطة باطنيَّة، كما قال فيهم الغزالي - رحمه الله تعالى - في كتابه الذي صنَّفه في الردِّ عليهم: (ظاهر مذهبهم الرَّفْض، وباطنه الكُفر المحض)، واتَّفق طوائف المسلمين؛ علماؤُهم وملوكهم وعامتهم مِن الحنفيَّة والمالكية والشافعيَّة والحنابلة وغيرهم على أنَّهم كانوا خارجين عن شريعةِ الإسلام، وأنَّ قتالهم كان جائزًا، بل نصُّوا على أنَّ نسبهم كان باطلاً، وأنَّ جَدَّهم كان عبيدالله بن ميمون القداح، لم يكن مِن آل بيت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وصنَّف العلماءُ في ذلك مصنَّفات، وشهِد بذلك مثلُ الشيخ أبي الحسن القدوري إمام الحنفيَّة، والشيخ أبي حامد الإسفرائيني إمام الشافعيَّة، ومِثل القاضي أبي يَعْلَى إمام الحنبليَّة، ومثل أبي محمد بن أبي زيد إمام المالكيَّة، وصنَّف القاضي أبو بكر بن الطيِّب فيهم كتابًا في كشف أسرارهم وسمَّاه: (كشف الأسرار وهتْك الأستار) في مذهب القَرامطة الباطنيَّة، والذين يُوجدون في بلادِ الإسلام من الإسماعيليَّة والنُّصيريَّة والدرزيَّة وأمثالهم مِن أتباعهم وهم الذين أعانوا التترَ على قِتال المسلمين، وكان وزير (هولاكو) النصير الطُّوسي من أئمَّتهم.
وهؤلاء أعظم الناس عداوةً للمسلمين وملوكهم، ثم الرافضة بعدَهم، فالرافضة يوالون مَن حارَبَ أهلَ السُّنة والجماعة، ويوالون التتار، ويوالون النصارى، وقد كان بالساحل بيْن الرافضة وبيْن الفرنج مهادنةٌ حتى صارتِ الرافضة تحمل إلى قبرص خيل المسلمين وسلاحهم وغلمان السلطان وغيرهم مِن الجند والصبيان، وإذا انتصر المسلمون على التتار أقاموا المآتمَ والحزن، وإذا انتصَر التتار على المسلمين أقاموا الفرَح والسرور، وهم الذين أشاروا على التتار بقَتْل الخليفة وقتْل أهل بغداد، ووزير بغداد ابن العَلْقمي الرافضي هو الذي خامَر على المسلمين وكاتَب التتار حتى أدخلَهم أرض العراق بالمكر والخديعة، ونهى الناس عن قِتالهم.
وقدْ عرَف العارفون بالإسلام أنَّ الرافضة تميل مع أعداءِ الدِّين، ولما كانوا ملوكَ القاهرة كان وزيرهم مرَّةً يهوديًّا، ومرة نصرانيًّا أرمينيًّا، وقويت النصارى بسبب ذلك النصراني الأرميني، وبنَوْا كنائس كثيرةً بأرض مصر في دولة أولئك الرافضة المنافقين، وكانوا يُنادون بيْن القصرين: مَن لعَن وسبَّ فله دينار وإردب، وفى أيَّامهم أخذتِ النصارى ساحلَ الشام مِن المسلمين، حتى فتحه نورُ الدِّين وصلاح الدين، وفى أيَّامهم جاءتِ الفرنج إلى بلبيس وغلبوا من الفرنج فإنَّهم منافقون، وأعانهم النَّصارى والله لا ينصُر المنافقين الذين هم يُوالون النصارى، فبعثوا إلى نورِ الدين يطلبون النجدةَ فأمدَّهم بأسدِ الدِّين وابن أخيه صلاح الدين، فلما جاءتِ الغزاةَ المجاهدون إلى ديار مصر قامتِ الرافضة مع النصارى، فطلبوا قتالَ الغزاةِ المجاهدين المسلمين، وجرَتْ فصول يعرِفها الناس حتى قَتَل صلاحُ الدين مقدَّمَهم شاور.
ومِن حينئذ ظهرتْ بهذه البلاد كلمةُ الإسلام والسُّنة والجماعة، وصار يقرأ فيها أحاديثُ رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - كالبخاري ومسلم ونحو ذلك، ويُذكر فيها مذاهب الأئمَّة، ويُترضَّى فيها عنِ الخلفاء الراشدين، وإلاَّ كانوا قبل ذلك مِن شر الخلْق، فيهم قوم يَعبدون الكواكبَ ويرصدونها، وفيهم قومٌ زنادقة دهريَّة لا يؤمنون بالآخِرة ولا جنة ولا نار، ولا يعتقدون وجوبَ الصلاة والزكاة والصيام والحج، وخير مَن كان فيهم الرافضة، والرافضة شرُّ الطوائف المنتسبين إلى القِبلة.
فبهذا السبب وأمثاله كان إحداثُ الكنائس في القاهرة وغيرها، وقدْ كان في برِّ مصر كنائسُ قديمة، لكن تلك الكنائس أقرَّهم المسلمون عليها حين فتَحوا البلاد؛ لأنَّ الفلاَّحين كانوا كلهم نصارى ولم يكونوا مسلمين، وإنَّما كان المسلمون الجند خاصَّة، وأقرُّوهم كما أقرَّ النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - اليهودَ على خيبر لما فتَحها؛ لأنَّ اليهودَ كانوا فلاَّحين، وكان المسلمون مشتغلين بالجِهاد، ثُم إنَّه بعدَ ذلك في خلافةِ عمرَ بن الخطاب - رضي الله عنه - لما كثُر المسلمون واستغْنَوا عن اليهود أجلاهم أمير المؤمنين عن خَيْبر كما أمَر بذلك النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - حيث قال: ((أخرِجوا اليهودَ والنصارَى مِن جزيرةِ العرَب))، حتى لم يبقَ في خيبر يهودي، وهكذا القرية التي يكون أهلُها نصارى، وليس عندَهم مسلمون ولا مسجدَ للمسلمين، فإذا أقرَّهم المسلمون على كنائسِهم التي فيها جازَ ذلك كما فَعَله المسلمون، وأمَّا إذا سكَنها المسلمون وبنَوْا بها مساجدَهم، فقد قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا تَصلُح قِبلتان بأرض))، وفي أثَر آخَر: ((لا يَجتمع بيْت رحمة وبيت عذاب)).
والمسلمون قدْ كثروا بالدِّيار المصريَّة وعمرتْ في هذه الأوقات حتى صار أهلُها بقدر ما كانوا في زمَن صلاح الدِّين مرَّات متعدِّدة، وصلاح الدِّين وأهل بيْته ما كانوا يوالون النَّصارَى، ولم يكونوا يَستعملون منهم أحدًا في شيءٍ مِن أمور المسلمين أصلاً؛ ولهذا كانوا مؤيَّدين منصورين على الأعداء مع قِلَّة المال والعَدد، وإنما قويت شوكة النَّصارى والتتار بعدَ موت العادِل أخي صلاح الدِّين حتى إنَّ بعض الملوك أعطاهم بعضَ مدائن المسلمين، وحدَث حوادث بسبب التفريط فيما أمَر اللهُ به ورسولُه - صلَّى الله عليه وسلَّم - فإنَّ الله تعالى يقول: ﴿ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحج: 40]، وقال الله تعالى: ﴿ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴾ [الحج: 41].
فكان ولاةُ الأمور الَّذين يهدِمون كنائسَهم ويُقيمون أمرَ الله فيهم كعُمرَ بن عبدالعزيز وهارون الرشيد ونحوهما مؤيَّدين منصورين، وكان الذين هم بخِلاف ذلك مغلوبين مقهورين.
وإنَّما كثرتِ الفِتن بيْن المسلمين وتفرَّقوا على ملوكِهم مِن حين دخَل النصارى مع ولاةِ الأُمور بالدِّيار المصريَّة في دولة المُعز، ووزارة الفائِز، وتفرّق البحرية، وغير ذلك والله تعالى يقول في كتابه: ﴿ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ﴾ [الصافات: 171 - 172]، وقال تعالى في كتابه: ﴿ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ﴾ [غافر: 51]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ [محمد: 7]، وقد صحَّ عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه قال: ((لا تزال طائفةٌ من أمَّتي ظاهرين على الحقِّ لا يضرُّهم مَن خذلهم ولا مَن خالفهم حتى تقومَ الساعة)).
وكل مَن عرَف سير الناس وملوكهم رأى كلَّ مَن كان أنصر لدِين الإسلام، وأعظم جهادًا لأعدائه، وأقومَ بطاعة الله ورسوله، أعظمَ نُصرةً وطاعة وحرمة، مِن عهْد أمير المؤمنين عمرَ بن الخطَّاب - رضي الله عنه - وإلى الآن.
وقد أخَذ المسلمون منهم كنائسَ كثيرةً مِن أرض العنوة بعدَ أن أقرُّوا عليها في خِلافة عمرَ بن عبدالعزيز وغيرِه مِن الخلفاء، وليس في المسلمين مَن أنْكر ذلك، فعلم أنَّ هدْم كنائس العنوة جائزٌ إذا لم يكُن فيه ضرر على المسلمين، فإعراض مَن أعرض عنهم كان لقلَّة المسلمين ونحو ذلك مِن الأسباب، كما أعْرض النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن إجلاءِ اليهود حتى أجْلاهم عمرُ بن الخطاب - رضي الله عنه.
وليس لأحدٍ مِن أهل الذمَّة أن يكاتبوا أهلَ دِينهم مِن أهل الحرْب، ولا يخبروهم بشيءٍ مِن أخبار المسلمين، ولا يَطلُب مِن رسولهم أن يكلِّف وليَّ أمر المسلمين ما فيه ضرر على المسلمين، ومَن فعَل ذلك منهم وجبتْ عقوبتُه باتِّفاق المسلمين، وفى أحد القولين يكون قد نقَض عهده وحلَّ دمُه ومالُه.
ومَن قال: إنَّ المسلمين يحصل لهم ضررٌ إنْ لم يجابوا إلى ذلك لم يكن عارفًا بحقيقةِ الحال؛ فإنَّ المسلمين قد فتَحوا ساحلَ الشام، وكان ذلك أعظمَ المصايب عليهم، وقدْ ألزموهم بلبس الغيار، وكان ذلك مِن أعظمِ المصايب عليهم، بل التتار في بلادِهم خرَّبوا جميع كنائسهم، وكان نوروز - رحمه الله تعالى - قد ألزمهم بلبس الغِيار وضرَب الجزية والصَّغار، فكان ذلك مِن أعظم المصايب عليهم، ومع هذا لم يدخلْ على المسلمين بذلك إلاَّ كلُّ خير، فإنَّ المسلمين مستغنون عنهم وهم إلى ما في بلاد المسلمين أحوجُ مِن المسلمين إلى ما في بلادِهم، بل مصلحة دِينهم ودُنياهم لا تقوم إلا بما في بلادِ المسلمين، والمسلمون ولله الحمدُ والمنَّة أغنياء عنهم في دِينهم ودُنياهم، فأمَّا نصارى الأندلس فهم لا يترْكون المسلمين في بلادِهم لحاجتهم إليهم، وإنَّما يتركونهم خوفًا من التتار؛ فإنَّ المسلمين عندَ التتار أعزُّ من النصارى وأكرم، ولو قدر أنهم قادرون على مَن عندهم من المسلمين فالمسلمون أقدرُ على مَن عندهم من النصارى، والنصارى الذين في ذمَّة المسلمين فيهم مِن البتاركة وغيرهم مِن علماء النصارى ورهبانهم ممَّن يحتاج إليهم أولئك النصارى، وليس عندَ النصارى مسلم يحتاج إليه المسلمون ولله الحمد، مع أنَّ فكاك الأسارى من أعظمِ الواجبات، وبذْل المال الموقوف وغيره في ذلك مِن أعظم القُربات، وكل مسلم يعلم أنَّهم لا يتجرون إلى بلادِ المسلمين إلا لأغراضهم لا لنفْع المسلمين، ولو منَعهم ملوكهم مِن ذلك لكان حرصُهم على المال يمنعهم مِن الطاعة، فإنَّهم أرغب الناس في المال؛ ولهذا يتقامرون في الكنائس، وهم طوائفُ مختلفون، وكلُّ طائفة تضادُّ الأخرى.
ولا يُشير على ولي أمْر المسلمين بما فيه إظْهار شعائرهم في بلادِ الإسلام أو تقوية أمْرهم بوجهٍ مِن الوجوه إلا رجل منافِق يظهر الإسلام، وهو منهم في الباطِن، أو رجل له غرَض فاسد، مِثل أن يكونوا برطلوه ودخلوا عليه برغبةٍ أو رهبة، أو رجل جاهِل في غاية الجهل لا يعرف السياسةَ الشرعيَّة الإلهيَّة التي تَنصُر سلطان المسلمين على أعدائه وأعداء الدِّين، وإلا فمَن كان عارفًا ناصحًا له أشار عليه بما يوجب نصْره وثباته وتأييده، واجتماع قلوبِ المسلمين عليه ومحبَّتهم له، ودعاء الناس له في مشارق الأرض ومغاربها، وهذا كلُّه إنما يكون بإعزاز دِين الله وإظهار كلمة الله، وإذلال أعداء الله تعالى.
وليعتبر المعتبرُ بسيرة نور الدين وصلاح الدين، ثم العادل، كيف مكَّنهم الله وأيَّدهم وفتَح لهم البلاد وأذلَّ لهم الأعداء؛ لما قاموا مِن ذلك بما قاموا به، وليعتبرْ بسيرة من والَى النصارى كيف أذلَّه الله تعالى وكبته.
وليس المسلمون محتاجين إليهم - ولله الحمد - فقدْ كتَب خالد بن الوليد - رضي الله عنه - إلى عمرَ بن الخطَّاب - رضي الله عنه - يقول: (إنَّ بالشام كاتبًا نصرانيًّا لا يقوم خراجُ الشام إلا به)؟ فكتَب إليه: (لا تستعملْه)، فكتب: (أنه لا غِنى بنا عنه)؟ فكتب إليه عمر: (لا تستعملْه)، فكتب إليه: (إذا لم نولِّه ضاع المال)؟ فكتب إليه عمرُ - رضي الله عنه -: (مات النصرانيُّ، والسَّلام)، وثبَت في الصحيح عن النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّ مشركًا لحِقه ليقاتل معه، فقال له: ((إنِّي لا أستعين بمشرِك))، وكما أنَّ استخدام الجُند المجاهدين إنما يصلُح إذا كانوا مسلمين مؤمنين، فكذلك الذين يعاونون الجندَ في أموالهم وأعمالهم إنما تصلُح بهم أحوالهم إذا كانوا مسلمين مؤمنين، وفي المسلمين كفايةٌ في جميع مصالحهم - ولله الحمد.
ودخَل أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه - على عمرَ بن الخطَّاب - رضي الله عنه - فعرَض عليه حسابَ العِراق فأعجبه ذلك، وقال: (ادعُ كاتبك يقرأْهُ عليّ) فقال: (إنَّه لا يدخل المسجد) قال: (ولِمَ) قال: (لأنَّه نصراني) فضرَبَه عمر - رضي الله عنه - بالدِّرَّة فلو أصابتْه لأوجعتْه، ثم قال: لا تُعزُّوهم بعد أن أذلَّهم الله، ولا تأمنوهم بعدَ أن خوَّنهم الله، ولا تُصدِّقوهم بعدَ أن أكْذَبهم الله.
والمسلمون في مشارقِ الأرض ومغاربها قلوبُهم واحِدة موالية لله ولرسولِه، ولعباده المؤمنين، معادية لأعداءِ الله ورسوله، وأعداء عبادِه المؤمنين، وقلوبهم الصادِقة وأدعيتهم الصالِحة هي العسكرُ الذي لا يُغلب، والجند الذي لا يُخذل، فإنَّهم هم الطائفة المنصورة إلى يومِ القيامة - كما أخبر رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم.
وقال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ أُولاَءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ﴾ [آل عمران: 118 - 120]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاَءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ﴾ [المائدة: 51 - 56].
وهذه الآيات العزيزة فيها عِبرةٌ لأولي الألباب، فإنَّ الله تعالى أنْزلها بسببِ أنَّه كان بالمدينة النبويَّة مِن أهل الذمَّة مَن كان له عِزٌّ ومَنعة على عهد النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وكان أقوامٌ مِن المسلمين عندهم ضعْف يقين وإيمان، وفيهم منافقون يُظهرون الإسلام ويُبطنون الكفرَ مِثل عبدالله بن أُبيٍّ - رأس المنافقين - وأمثاله، وكانوا يخافون أن تكونَ للكفَّار دولةٌ، فكانوا يوالونهم ويُباطنونهم؛ قال الله تعالى: ﴿ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ ﴾؛ أي: نفاق وضعْف إيمان ﴿ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ ﴾؛ أي: في معاونتهم ﴿ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ ﴾، فقال الله تعالى: ﴿ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا ﴾؛ أي: هؤلاء المنافقون الذين يوالون أهلَ الذمَّة: ﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ ﴾.
فقدْ عرَف أهل الخبرة أنَّ أهل الذمَّة من اليهود والنصارى والمنافقين يُكاتبون أهلَ دِينهم بأخبار المسلمين وبما يطلعون على ذلك مِن أسرارهم، حتى أُخِذ جماعة من المسلمين في بلادِ التتر وسُبُوا، وغير ذلك بمطالعة أهلِ الذمَّة لأهل دِينهم، ومِن الأبيات المشهورة قولُ بعضهم:
كُلُّ العَدَاوَاتِ قَدْ تُرْجَى مَوَدَّتُهَا إِلاَّ عَدَاوَةَ مَنْ عَادَاكَ فِي الدِّينِ |
ولهذا وغيرِه مُنعوا أن يكونوا على ولايةِ المسلمين، أو على مصلحةِ مَن يقويهم، أو يفضل عليهم في الخِبرة والأمانة مِن المسلمين، بل استعمال مَن هو دونهم في الكفاية أنفعُ للمسلمين في دِينهم ودنياهم، والقليل مِن الحلال يبارك فيه، والحرام الكثير يذهب ويمحقه الله تعالى، والله أعلم، وصلَّى الله على محمَّد وآله وصحْبه وسلم