بقلم عادل صبري
إذا أردنا أن يكون هناك قانون موحد لدور العبادة، فليس أقل بأن نقبل رقابة الدولة علي أموال الكنائس والتي تأتي لبناء وتشغيل وإدارة المنشآت الدينية، وإلا فلا سلطة لقانون ولا هيبة للدولة.
كان طرح قانون العبادة الموحد من أكثر القضايا إلحاحا عند كثيرين من الأقباط، خلال الأعوام الخمسة الماضية. فلم يكن خافيا أن النائبة جورجيت قلليني المقربة من البابا شنودة، أكثر من تقدم بطلب طرح القانون للمناقشة تحت قبة البرلمان. وانضمت إلي هذه المطالب مؤسسات المجتمع المدني وخاصة المجلس القومي لحقوق الإنسان، بهدف منح الأقباط حرية بناء كنائسهم، وتنظيم عمليات البناء للمساجد، التي تنتشر عشوائيا، خاصة حول الكنائس في المحافظات. بعد سنوات من النضال السياسي لطرح القانون، فوجئنا بكثير من الرموز القبطية وعلي رأسهم نجيب جبرائيل محامي البابا، وبعض القساوسة، يهاجمون القانون لمجرد أن مواده نصت علي ضرورة إشراف الدولة عن طريق الجهاز المركزي للمحاسبات علي أموال التبرعات التي تأتي للكنيسة.
لاندري لماذا الخوف من رقابة جهاز المحاسبات علي هذه الأموال؟ فتاريخ الجهاز تظهر أنه لم يكن محاسبا ولا رقيبا حقيقيا علي أموال الدولة التي أهدرت بالمليارات منذ إنشائه. ووجود الجهاز وليا علي صرف أموال المساجد والأوقاف الإسلامية لم تمنع سرقات صناديق النذور ولا تبديد الأراضي والمنشآت الوقف التي يشارك في نهبها ـ للأسف الشديد ـ موظفون ومستشارون من المفترض أنهم عينوا كأمناء علي أموال الله.
إذن مشاعر الخوف التي جعلت جبرائيل وغيره يشنون حملة في أجهزة الإعلام ضد الرقابة علي أموال الكنيسة، عقب طرح قانون العبادة الموحد، في بداية الأسبوع الماضي، تثير شكوكا في هذه النقطة تحديدا. فلماذا كان محامي الكنيسة يطالب بقانون ثم يشن هجوما عليه، بعد أن وجد أن سلطة الدولة ستمتد لأموال الكنيسة؟. كان أولي بالمحامي المخضرم أن يرحب بهذه الرقابة لأن الكنيسة المصرية هي جزء من الدولة، وامتداد سلطة الدولة علي مؤسساتها نوع من الشفافية وتأكيد لهيبتها وقدرتها علي أن تصبح في نهاية الأمر دولة القانون الذي يطبق علي الجميع. والحجة التي دفع بها جبرائيل أن مال الكنيسة مال خاص، أمر مردود عليه، فأي منشأة تتلقي تتبرعات من الناس لا تصبح أموالها أموالا خاصة، بحكم القانون، وإلا تركنا كل فرد أو منشأة يجمعون أموالا كما يشاؤون ولا نستطيع أن نحاسبهم علي ما يفعلون لأنهم سيقولون: إن هذا المال ملك لنا!
فأموال المساجد وصناديق النذور هي أموال عامة، وتحت سلطة القانون في كل مراحلها طالما خرجت من جيوب المتبرعين. ولا يستطيع أي فرد جمع أموال الزكاة من المواطنين، لأنها منذ فرضها النظام الإسلامي، من مسئوليات الدولة، فالحاكم هو الذي يحدد وقتها وقيمتها والعاملين علي جمعها والمسئولين عن توزيعها ومعاقبة المترددين عن حقوقها. وعندما اختفت فريضة الزكاة من النظم الحاكمة في الدولة الإسلامية، ظلت الدولة تطارد من يجمعها ولو علي سبيل دعم العمل الخيري، لأنها تريد أن تضع هذه الأموال تحت بصرها، فلا تدري من يستخدم هذه الأموال وفيم توجه. فكم رأينا اتهامات لأناس جمعوا أموالا بأنهم يشترون أسلحة لمقاتلة النظام، أو يهربون أموالا لدعم جماعات متطرفة في الداخل والخارج؟. والدولة في كل الأمور لديها الحق في أن تعرف فيم تستخدم الأموال التي تتلقاها الجمعيات أو النقابات والأحزاب و المساجد وغيرها من المؤسسات العاملة في الشأن العام، ولن تكون الكنيسة شاذة عن هذا الأمر لأنها في نهاية المطاف مؤسسة رسمية في الدولة.
نعلم أن كثيرا من الأقباط يتبرعون شهريا بعشر دخولهم للكنيسة وهذا حق لكل مؤمن ولكن عدم الإفصاح من قبل الكنيسة عن مصير هذه التبرعات يفتح أبواب الشيطان. فمصر دولة مدنية لم تحكم أبدا بنظام ولاية الفقيه الموجود حاليا في إيران، ويتمني الشيعة أن يطبق هذا النظام بحذافيره في العراق أو ينقل لمصر وغيرها من الدول العربية والإسلامية. فهذا النظام المخيف هو وحده الذي يمنح رجال الدين سلطة جمع الأموال بعيدا عن رقابة الدولة، لذا نري فقهاء الشيعة في إيران هم الذين يمولون جماعاتهم المسلحة في مواجهة الدولة مادامت تسير عكس رغبتهم، وهم الذين يمولون الحملات الانتخابية لأنصارهم، وينفقون علي الأسر والجماعات الموالية لهم. ولذا لم نفاجأ يوما بأن هؤلاء الفقهاء لهم جيوش وميلشيات مسلحة تتحدي سلطة الدولة وتعمل جهارا نهارا، بدون سند من قانون، لأنهم يجنون حصيلة ما يسمي بالخمس، وهي تعادل 20? من دخل أي تابع للفقية.
نعلم أن الكنيسة المصرية لم تشهد حالة دولة الفقهاء كما في إيران أو العراق، ولكن التصريحات التي اتهمت العديد من فروعها خلال الفترة الماضية، واختفاء بعض النساء داخل أديرتها أو الجمعيات التابعة لها، والحديث عن وجود أسلحة بداخلها أمر يثير الفتنة ويحتاج إلي إزالة كل شك أو غموض. وبداية رفع هذه الملابسات أن تكون الكنيسة ورجالها أول من يرجب بفتح باب رقابة الدولة والقانون علي أموالها، خاصة أنه لا يوجد من يجرؤ علي اتهام قسيس أو راهب بالفساد المالي، مع نظام رهبنة قاس علي النفس البشرية، يفرض عليهم التجرد من كل أهواء النفس وخاصة حب المال والشهوات. فالرقابة هنا لا تنتقص من قيمة رجال الدين بل تنزههم عن الهوي، وتجعلهم قدوة أمام غيرهم من الناس، فيصبحوا نموذجا يحتذي، لاسيما أننا في مجتمع ـ وفقا لإحصائيات وزارة التنمية الإدارية ـ يمارس 84? منه الفساد أو يشارك فيه. وتذكر الاحصاءات أن بعض الفاسدين يطلبون الرشاوي، عقب انتهائهم من أداء الصلاة مباشرة، أي أن القيم الدينية لم تغرس في نفوسنا بما فيه الكفاية، وكأن هناك دينا نتعامل به مع الله وآخر نفرضه علي الناس، ونسينا أن أي دين يفرض علي أتباعه أن الدين هو المعاملة، في كافة صورها المادية والروحية.
من حق الأقباط وغيرهم أن يطالبوا الدولة بقانون موحد لدور العبادة، وإن كنا لم نر له مثيلا في أي من دول العالم. فلم نر في الصين الشيوعية أو الهند البوذية أو إيطاليا المسيحية أو أفريقيا اللادينية قانونا يوحد في الشكل والمسافات أو الشروط بين المساجد والكنائس والمعابد. مع ذلك إذا ارتضينا أن يكون هناك قانون موحد لدور العبادة وطلبنا ذلك من الدولة، فليس أقل بأن نقبل رقابة الدولة علي الأموال التي تأتي لبناء وتشغيل وإدارة هذه المنشآت الدينية، وإلا فلا سلطة لقانون ولا هيبة للدولة إذا خالفنا هذا النظام. ويقيننا أن الكنسية ترفض أن يكون مال أتباعها حرام علي الدولة، كما نحن علي بينة من أنها لا تطيق نظام ولاية الفقيه الذي تحاول إيران جرجرتنا إليه بشتي الطرق